سورة التوبة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


لما ذكر الله أصناف المنافقين، وبين طرائقهم المختلفة، عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، فيكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا على أن {الذين} مبتدأ، وخبره {منهم} المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدّمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذمّ. وقرأ المدنيون وابن عامر: {الذين اتخذوا} بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره: {لاَ تَقُمْ} قاله الكسائي، وقال النحاس: إن الخبر هو {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ} وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار.
و {ضِرَارًا} منصوب على المصدرية، أو على العلية {وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا وَإِرْصَادًا} معطوفة على {ضِرَارًا} فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأوّل: الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين؛ لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء، فتقلّ جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار.
وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة.
وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب؛ يقال أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقباً له به.
وقال أبو زيد: يقال: رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشرّ.
وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه: ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدّوه لهؤلاء، وارتقبوا به وصولهم، وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله: {مِن قَبْلُ} متعلق ب {اتخذوا}: أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق ب {حارب}: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار.
قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} أي: ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي: الرفق بالمسلمين، فردّ الله عليهم بقوله: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما حلفوا عليه، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أي: في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه، يستلزم النهي عن الصلاة فيه.
وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل: أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح: «من قام رمضان إيماناً به واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} واللام في {لَّمَسْجِدٌ} لام القسم، وقيل: لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء: تثبيته ورفعه.
ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة.
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائفة: هو مسجد قباء، كما روي عن ابن عباس والضحاك، والحسن، والشعبي، وغيرهم.
وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والأول: أرجح لما سيأتي قريباً إن شاء الله.
و {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} متعلق بأسس: أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه، قال بعض النحاة: إن {مِنْ} هنا بمعنى منذ: أي منذ أوّل يوم ابتدئ ببنائه، وقوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} خبر المبتدأ، والمعنى: لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله، لكونه أسس على التقوى من أوّل يوم، ولكون {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه فيه: أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل، فهو أولى من جهة الحالّ فيه، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. ومعنى محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه؛ وقيل: معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار. والأوّل: أولى. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعاً، وهذا ضعيف جدّاً. ومعنى محبة الله لهم: الرضا عنهم، والإحسان إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.
ثم بيّن سبحانه أن بين الفريقين بوناً بعيداً. فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} والهمزة للإنكار التقريري، والبنيان مصدر كالعمران، وأريد به المبنيّ، والجملة مستأنفة. والمعنى: أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي تقوى الله ورضوانه، خير ممن أسس دينه على ضدّ ذلك، وهو الباطل والنفاق، والموصول مبتدأ، وخبره {خير} وقرئ: {أسس بنيانه} على بناء الفعل للفاعل، ونصب بنيانه، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وقرئ على البناء للمجهول، وقرئ: {أساس بنيانه} بإضافة أساس إلى بنيانه، وقرئ: {أسّ بنيانه} والمراد: أصول البناء، وحكى أبو حاتم قراءة أخرى، وهي {آساس بنيانه} على الجمع، ومنه:
أصبح الملك ثابت الآساس *** بالبهاليل من بني العباس
والشفا: الشفير، والجرف: ما يتجرف السيول، وهي: الجوانب التي تنجرف بالماء، والاجتراف: اقتلاع الشيء من أصله، وقرئ بضم الراء من {جرف} وبإسكانها. والهار: الساقط، يقال هار البناء: إذا سقط، وأصله: هائر، كما قالوا: شاك السلاح، وشائك كذا، قال الزجاج.
وقال أبو حاتم: إن أصله هاور. قال في شمس العلوم: الجرف ما جرف السيل أصله، وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار ا ه، جعل الله سبحانه هذا مثلاً لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحلّ بسرعة، ثم قال: {فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} وفاعل فانهار، ضمير يعود على الجرف: أي فانهار الجرف بالبنيان في النار، ويجوز أن يكون الضمير في {بِهِ} يعود إلى {من} وهو الباني.
والمعنى: أنه طاح الباطل بالبناء، أو الباني في نار جهنم، وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحاً للمجاز، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام، وأقوى تراكيبه، وأوقع معناه، وأفصح مبناه.
ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم، واستمرار تردّدهم وشكهم فقال: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} أي شكاً في قلوبهم ونفاقاً، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مذهب
وقيل: معنى الريبة: الحسرة والندامة، لأنهم ندموا على بنيانه.
وقال المبرد: أي حرارة وغيظاً.
وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقاً وتصميماً على الكفر، ومقتاً للإسلام، لما أصابهم من الغيظ الشديد، والغضب العظيم بهدمه، ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على استمرار هذه الريبة ودوامها، وهو قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعاً، وتتفرّق أجزاء: إما بالموت أو بالسيف، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة. وقيل معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، ويعقوب، وأبو جعفر، بفتح حرف المضارعة. وقرأ الجمهور بضمها.
وروي عن يعقوب أنه قرأ: {تقطع} بالتخفيف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم. وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود: {ولو تقطعت قلوبهم}. وقرأ الحسن، ويعقوب، وأبو حاتم: {إلى أن تقطع} على الغاية. أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر الراهب: ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوّة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه؛ فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه، وتدعو بالبركة، فأنزل الله: {لا تقم فِيهِ أَبَدًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عنه، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جدّ عبد الله بن حنيف، ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبجدح: «ويلك يا بجدح، ما أردت إلى ما أرى»، فقال: يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يعذره، فأنزل الله تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} يعني: رجلاً يقال له أبو عامر، كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ولرسوله.
وأخرج ابن إسحاق، وابن مردويه، عنه، أيضاً قال: دعا رسول الله مالك بن الدخشم، فقال مالك لعاصم: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار، ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وخرج أهله فتفرّقوا عنه، فأنزل الله هذه الآية. ولعل في هذه الرواية حذفاً بين قوله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم وبين قوله فقال مالك لعاصم، ويبين ذلك ما أخرج ابن إسحاق، وابن مردويه، عن أبي رهم: كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة الشاتية، والليلة المطيرة، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه؛ قال: إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه؛ فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي، أحد بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرّقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان، وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إلى آخر القصة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم: إن الذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً، وذكرا أسماءهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان: رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: «هو هذا المسجد»، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «في ذلك خير كثير»، يعني: مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والزبير بن بكار في أخبار المدينة، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والحاكم في الكنى، وابن مردويه، عن سهل بن سعد الساعدي نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، والضياء في المختارة، عن أبيّ بن كعب قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى قال: «هو مسجدي هذا».
وأخرج الطبراني، والضياء المقدسي في المختارة، عن زيد بن ثابت، مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والطبراني، من طريق عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما أنزلت في مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله.
وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، أنه مسجد قباء.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله.
ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم، كما قدّمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم، ولا غيرهم، ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء، بلا شك ولا شبهة تعمّ.
وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال: وكانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية، وفي إسناده يونس بن الحارث، وهو ضعيف.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟ فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، أو قال: مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو هذا».
وأخرج أحمد، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، عن عويم بن ساعدة الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا» رواه أحمد عن حسن بن محمد. حدّثنا أبو أويس، حدّثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة، فذكره.
وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الجارود في المنتقى، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن طلحة بن نافع، قال: حدّثني أبو أيوب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، قال: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء، قال: هو ذاك فعليكموه».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن محمد بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال: «إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني؟» يعني: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} فقالوا: يا رسول الله، إنا لنجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء، ونحن نفعله اليوم. وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثني مالك، يعني ابن مغول، سمعت سياراً أبا الحكم، عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام.
وقد روى عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا. ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله، وبعضها ضعيف، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وعلى كل حال: لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحتها وصراحتها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} قال: يعني قواعده في نار جهنم.
وأخرج مسدّد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، قال: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس في قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} قال: يعني الشك {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعني: الموت.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن حبيب بن أبي ثابت، في قوله: {رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} قال: غيظاً في قلوبهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قال: إلى أن يموتوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان، في قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قال: إلا أن يتوبوا.


لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرّع على كل قسم منها ما هو لائق به، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل، كما في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصل الشراء بين العباد هو: إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه، أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين، أي: بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود:
يجود بالنفس أن ضنّ الجبان بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال؛ والمراد بالأنفس هنا: أنفس المجاهدين، وبالأموال: ما ينفقونه في الجهاد. قوله: {يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور، كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، ثم بيّن هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} والمراد أنهم: يقدمون على قتل الكفار في الحرب، ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد، والتعرّض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش، والنخعي، وحمزة، والكسائي وخلف بتقديم المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التوراة والإنجيل والقرءان} إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل، كما وقع في القرآن، وانتصاب و{عداً} و{حقاً} على المصدرية أو الثاني: نعت للأوّل، و{في التوراة} متعلق بمحذوف: أي وعداً ثابتاً فيها.
قوله: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال، ما لا يخفى، فإنه أوّلاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم، بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزّلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق، لا بدّ من حصول الموعود به، فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سروراً وحبوراً، فقال: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} أي: أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال: أسارير الوجه: أي التي يظهر فيها السرور.
وقد تقدّم إيضاح هذا، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله. والمعنى: أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عزّ وجلّ، فقد ربحتم فيه ربحاً لم يربحه أحد من الناس، إلا من فعل مثل فعلكم، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الجنة، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم، يدل على أنه فوز لا فوز مثله.
قوله: {التائبون} خبر مبتدأ محذوف: أي هم التائبون، يعني: المؤمنون، والتائب الراجع: أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة.
وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: {التائبون العابدون} رفع بالابتداء وخبره مضمر: أي التائبون، ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً، وإن لم يجاهدوا. قال: وهذا أحسن، إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين في قوله: {اشترى مِنَ المؤمنين} لكان الوعد خاصاً بمجاهدين.
وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى، وأنها على جهة الشرط: أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: التائبين العابدين إلى آخرها وفيه وجهان: أحدهما: أنها أوصاف للمؤمنين. الثاني: أن النصب على المدح. وقيل: إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير {يقاتلون} وجوز صاحب الكشاف أن يكون {التائبون} مبتدأ، وخبره {العابدون} وما بعده أخبار، كذلك أي: التائبون من الكفر على الحقيقة، الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص. و{الحامدون} الذين يحمدون الله سبحانه على السرّاء والضرّاء، و{السائحون} قيل: هم الصائمون، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قوله تعالى: {عابدات سائحات} [التحريم: 5] وإنما قيل للصائم سائح؛ لأنه يترك اللذات، كما يتركها السائح في الأرض، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب:
وبالسائحين لا يذوقون فطرة *** لربهم والراكدات العوامل
وقال آخر:
تراه يصلي ليله ونهاره *** يظل كثير الذكر لله سائحا
قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين ها هنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل: إنهم الذين يديمون الصيام.
وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: السائحون: المهاجرون.
وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته، وما خلق من العبر. والسياحة في اللغة أصلها: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، و{الركعون الساجدون} معناه: المصلون، و{الآمرون بالمعروف} القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة {والناهون عَنِ المنكر} القائمون بالإنكار على من فعل منكراً: أي شيئاً ينكره الشرع {والحافظون لِحُدُودِ الله} القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه، وعلى لسان رسله، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين، وهما: {والناهون عَنِ المنكر والحافظون} الخ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه.
وقيل: إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها، كقوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} [غافر: 3]. وقيل: إن الواو زائدة. وقيل: هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة، كما في قوله تعالى: {ثيبات وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5]، وقوله: {وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 73]، وقوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وقد أنكروا الثمانية، أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه {وَبَشّرِ المؤمنين} الموصوفين بالصفات السابقة.
وقد أخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، وغيره قالوا: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تنعون منه أنفسكم وأموالكم»، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة»، قال: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، قال: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} فكبر الناس في المسجد، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه، فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية؟ قال: «نعم»، فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل، ولا نستقيل.
وقد أخرج ابن سعد، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم. قالوا: نعم؛ قال قائل الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال: «الجنة» وأخرجه ابن سعد أيضاً من وجه آخر، وليس في قصة العقبة ما يدلّ على أنها سبب نزول الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن عباس، قال: من مات على هذه التسع، فهو في سبيل الله: {التائبون العابدون} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن المنذر، عن ابن عباس، قال: الشهيد من كان له التسع الخصال المذكورة في هذه الآية.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: العابدون الذين يقيمون الصلاة.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عنه، أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء».
وأخرج ابن جرير، عن عبيد بن عمير، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين، فقال: «هم الصائمون».
وأخرج الفريابي، وابن جرير، والبيهقي في شعب الإيمان، من طريق عبيد بن عمير، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، مرفوعاً مثله.
وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً، وهو أصح من المرفوع من طريقه، وحديث عبيد بن عمير مرسل، وقد أسنده من طريق أبي هريرة في الرواية الثانية.
وقد روي من قول جماعة من الصحابة مثل هذا: منهم عائشة عند ابن جرير، وابن المنذر، ومنهم ابن عباس عند ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، ومنهم ابن مسعود، عند هؤلاء المذكورين قبله.
وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي أمامة أنّ رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» وصححه عبد الحق.
وأخرج أبو الشيخ، عن الربيع، في هذه الآية قال: هذه أعمال قال فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قضى على نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن لهذه الأمة أن من قتل منهم على هذه الأعمال كان عند الله شهيداً، ومن مات منهم عليها فقد وجب أجره على الله.
وأخرج ابن المنذر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة. قال: وقال ابن عباس: من مات وفيه تسع، فهو شهيد، وقرأ هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} يعني: بالجنة، ثم قال: {التائبون} إلى قوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} يعني: القائمين على طاعة الله، وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد، وإذا وفوا لله بشرطه وفى لهم بشرطهم.


لما بيّن الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، وصرّح بأن ذلك متحتم، ولو كانوا أولي قربى، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها.
وقد ذكر أهل التفسير أن {ما كان} في القرآن يأتي على وجهين: الأوّل: على النفي نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145]، والآخر: على معنى النهي نحو: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] و{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين. وعلى فرض أنه قد كان بلغه، كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل يوم أحد بمدّة طويلة، وسيأتي. فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدّمه من الأنبياء، كما في صحيح مسلم عن عبد الله، قال: كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» وفي البخاري، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه، فجعل النبي يخبر عنه بأنه قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» قوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار، والمعنى: أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا، وعدم الاعتداد بالقرابة؛ لأنهم ماتوا على الشرك.
وقد قال سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
قوله: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدّم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدوّ لله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدلّ على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار، ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين، أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصرّ على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدوّ الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدلّ على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل.
وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه: دعاؤه إلى الإسلام، وهو ضعيف جداً. وقيل المراد بالاستغفار في هذه الآية: النهي عن الصلاة على جنائز الكفار، فهو كقوله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم. فقال: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ} وهو كثير التأوّه، كما تدل على ذلك صيغة المبالغة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأوّاه، فقال ابن مسعود، وعبيد بن عمير: إنه الذي يكثر الدعاء.
وقال الحسن، وقتادة: إنه الرّحيم بعباد الله.
وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن بلغة الحبشة.
وقال الكلبي: إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر.
وروي مثله: عن ابن المسيب، وقيل: الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر. وقيل: هو الذي يكثر التلاوة، حكي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المتضرع الخاضع، روى ذلك عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد. وقيل: هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها، روي ذلك عن أبي أيوب. وقيل: هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى. وقيل: إنه المعلم للخير. وقيل: إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله، قاله عطاء. والمطابق لمعنى الأوّاه لغة أن يقال: إنه الذي يكثر التأوّه من ذنوبه، فيقول مثلاً: آه من ذنوبي آه، مما أعاقب به بسببها، ونحو ذلك، وبه قال الفراء، وهو مروي عن أبي ذرّ، ومعنى التأوّه: هو: أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال في الصحاح: وقد أوّه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذا قال أوّه، والاسم منه آهة بالمدّ، قال:
إذا ما قمت أرحلها بليل *** تأوّه آهة الرجل الحزين
و {الحليم} الكثير الحلم، كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب، ويصبر على الأذى. وقيل: الذي لا يعاقب أحداً قط إلا لله.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عمّ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، وأبو جهل وعبد الله، يعاندانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك»، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56].
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة، عن عليّ قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن عليّ قال: أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، فقال: «اذهب فغسله وكفنه، وواره غفر الله له ورحمه»، ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية.
وقد روي كون سبب نزول الآية: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة: منها عن محمد بن كعب، عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وهو مرسل. ومنها عن عمرو بن دينار، عند ابن جرير، وهو مرسل أيضاً. ومنها عن سعيد بن المسيب، عند ابن جرير، وهو مرسل أيضاً. ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد، وأبي الشيخ وابن عساكر. ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر، وهو مرسل.
وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه، واستغفاره لها، من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه، ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وعن بريدة عند ابن مردويه، وما في الصحيحين مقدّم على ما لم يكن فيهما، على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} إلى قوله: {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإسراء: 24] قال: ثم استثنى فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} إلى قوله: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} قال: تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو بكر الشافعي في فوائده، والضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فتبرأ منه.
وأخرج ابن مردويه، عن جابر، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه فإنه أوّاه».
وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين: «إنه أوّاه»، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء.
وأخرجه أيضاً أحمد قال: حدّثنا موسى بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، فذكره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد قال: قال رجل: يا رسول، الله ما الأوّاه؟ قال: «الخاشع المتضرّع الدّعاء» وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأوّاه، وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدّثني المثنى، حدثني الحجاج بن منهال، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام، حدّثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد، فذكره.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} قال: كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12